مرت الساعات و كأنها سنوات و هي تنتظر موعدها مع حبيبها ذلك الموعد الذي
يبعث فيها الحياة في نهاية كل أسبوع ، ذلك الموعد الذي تنتظره ليل نهار
طوال أيام الأسبوع الستة ، دقت الساعة دقات و دقات إلي أن اقتربت الدقات
الساخنة الدافئة التي تنتظرها بقلبها الصافي الحنون لتطفئ نار أشواقها و
لهيب حبها المشتعل ليل نهار ليضيء الليل بمصابيحه المنيرة.
كانت متعبة جدا في ذلك اليوم لا تدري لماذا، و برغم ما حل بها من مرض فقد
فضلت ألا تنام أو يهدأ لها بال إلا بعد تري حبيبها و تلتقي معه .
ارتدت أجمل ما عندها من ثياب خرجت قبل الموعد بفترة حتى يتثني لها أن
تلتقي معه في الساعة و الدقيقة و الثانية المتفق عليها فيما بينهما، مشت
و كلها أمل و تفاؤل و حب و حنان، خطواتها تكاد تحملها و تطير بها من فرط
السعادة و الفرح اللذان كانا يحيطان بها و كأنها لؤلؤة مكنونة وسط
الحقول و الزهور الجميلة ، اقتربت أكثر و أكثر من مكان اللقاء و قلبها
يرقص من الفرحة فهاهو حبيبها عمرو أمامها أقبلت عليه و ضعت يدها في يديه
لتحيته و جلست في الكرسي الذي أمامه ، و لكن لاحظت شيئا غريبا لم تعهده
في عمرو فمقابلته هذه المرة باردة الشكل لم تظهر فيها ابتسامته الجميلة
كل مرة و لم يظهر عليه بادرة شوق ولا لهفة كما كان سابق عهده معها
تسلل الخوف إلي داخلها و جمعت قواها و قالت له : ماذا بك حبيبي عمرو؟
رد و هو في وجوم و برود كبيرين : سارة أريدك أن تدركي شيئاً غاية في
الأهمية
اندهشت سارة و التفتت و تدفق الدم إلي كل خلايا عقلها و قلبها يرتجف من
الخوف و قالت : ماهو ؟
رد في برود أكثر من السابق و قال: أنا لن أكمل معك طريقي
ردت بطريقة غير تلقائية : لماذا ؟
أجاب بكلمات ثلجية : لأني أحببت فتاة أخري و قمت بخطبتها و أبيت أن أقول
لكي حتى لا تنزعجي و لكن آن الأوان أن أكشف الحقيقة .
لم ترد سارة إلا بدموع عينها البريئة و بعض الكلمات التي نطقها لسانها
بصعوبة من هول الموقف قالت : ما الذي جنيته لتفعل بي هذا؟ ماذا فعلت هل
لأني أحببتك و أخلصت في حبك؟ ، لم تستطع تحمل الصدمة و أخذت عينها في
البكاء أكثر و أكثر بغزارة شديدة بكاء المظلوم من بطش الظالم
قال لها في كلمة سريعة و هو يقوم من مكانة معلنا الرحيل النهائي للابد :
كل شيء انتهي بينا و خرج من المكان و كأن شيئا لم يكن، ركب سيارته و
انطلق .
أما سارة فمازالت جالسة في مكانها منهمرة الدموع قدميها لا تقدران علي
حملها من هول الموقف الذي مر بها ، يديها ترتجفان و هما اللتان كانتا
منذ قليل مليئتان بالحب و الدفيء خرجت من المكان و هي غير مدركة إلي أين
تذهب و ما هو طريقها و عقلها يكاد يتوقف عن العمل من هول الصدمة التي لم
تمر بمثلها في حياتها كلها.
دخلت البيت سألتها والدتها عن حالها فلم تجب و دخلت إلي غرفتها و أغلقت
الباب عليها و جلست مع نفسها بلا وعي لا تعلم هل عقلها مازال قادراً علي
التفكير أم لا .
لقد تدمرت سارة و تدمر كل شيء ، الأحلام و الأماني قُتلت ، الحب و الإخلاص و
الحنان ذهبوا هباءاً، الليالي الجميلة و الأيام الرائعة كانت كلها كذب و
خداع و زيف من إنسان كان يوهمها بحبه و في النهاية يرتبط بأخرى كأنه
يبدل ما بين النساء هذه سنة و هذه سنة ، فتحت درج مكتبها أخرجت صورته
نظرت إليه و أخذ شريط الذكريات يمر أمامها لحظة بلحظة فهي التي أخلصت في
حبها و أعطت كثيراً و لم تبالي فهو حبيبها و رفيق دربها كما كانت تظن،
فكم كانت تحبه كل الحب و كم كانت مخلصه له و كم كانت تحكي له عن همومها
و أحزانها و كم كانت تنظر في عينيه و تري فيهما الشفاء لها و الحنان
المزيف الذي تمثل في صورة قصة وهمية نسجها علي هذه البريئة العاشقة التي
هي مثال للحب و العشق الحقيقي في زمن الخداع و الزيف ، كم كانت تبكي من
طول بعده ، كم كان قلبها يحترق من فرط قسوته عليها أحيانا، كم كانت تحب
لقاءه و تنتظره بلهيب الشوق و حنين القلب و الحب الصافي ، كم كانت تعشق
سماع اسمه عمرو عمرو ، كم كانت تعشق رنة تليفونه عندما يكلمها و تجري
عليه في لهفة و حب جنوني تبث له مشاعر حبها المتفجر في قلبها الحنون
والصافي ، كم كانت تفضله علي نفسها و علي كل شيء ، كم كانت تسهر الليالي
تتحدث له و هو ليس أمامها تتخيله كأنه معها من فرط حبها ، كم ضحت من
أجله ، كم احتفظت بحبها و آهاتها بداخلها ، كم تمنت أن تصبح ملكة قلبه و
حبه الوحيد ، كم تمنت أن يكون حبيب قلبها وفياً يقابل كل هذا الحب بحب
أكبر منه
كل هذه الذكريات و الخواطر دارت بداخل عقل سارة و هي تنظر لصورته و
عينيها تغرق في الدموع البريئة، نظرت إلي عينه و تكلمت إليه و قالت
لماذا فعلت بي هكذا؟ لم أكن أظن أن كلماتك الرقيقة و حنانك كله زيف و
خداع ، لم يخيل لي يوماً أنك ستغدر بي و تخونني بهذه الطريقة البشعة ،
كنت أظنك ملاكا بريئا سيحمل قلبي و يحبه و يجعله ملاذه من كل الدنيا ، كم
كنت أتخيلك زوجاً و حبيباً أعطي لك عمري و أعيش من أجلك و من أجل حبك و من
أجل جعلك أسعد إنسان بهذه الدنيا ، لكن
تدمر الأمل ، تلاشت الأحلام أصبح الحبيب خائن
و فجأة و في وسط جبال الحزن و هضاب الأسى و الألم و نيران الحسرة المشتعلة
بداخلها قامت من مكانها و دب الوعي مرة أخري في عقلها و بكامل إرادتها
قامت بتقطيع صورة الخائن بل و أحرقتها
ارتمت سارة علي سرير غرفتها في صمت رهيب توقفت دموع عينها
الغزيرة، هدأ قلبها المشتعل بنيران الظلم و القهر و الحسرة ، و لكن
عقلها هو ما يحدثها الآن بكامل قوته و كامل تفكيره ، يتحدث معها عقلها و
يقول لها : كوني عاقلة يا سارة اطوي الماضي و احذفيه من حياتك و انظري
للمستقبل و اتركي الظالم ينتقم لكي منه الزمان و العدالة السماوية التي
ستجعل الظالم يندم في يوم من الايام و يتمني أن ترجع الأيام ووقتها سيكون
قد حذف من حياتك و ستكونين إنسانة جديدة يا سارة ، أجل يا سارة فلتبدلي
الحزن و الأسي بالفرح و الفخر لكونك تركتي هذا الخائن الغدار فهو ليس
جدير بإنسانة عاشقة و صافية القلب مثلك فلو دار في هذه الأرض فلا و لن يجد
إنسانة تحبه مثل حبك له فلا تحزني ولا تندمي فهذا ليس أهلاً أن تندمي عليه ،
فكري فقط في شيء واحد و هو مستقبلك فقط و كيف تحققين نفسك و ذاتك و
أهدافك السامية ، أنتي إنسانة ليس كمثلك أحد صافية ، بريئة، عبقرية ،
متفائلة في كل وقت و كل مكان فلتحذفي هذا الماضي الأليم من حياتك و هذه
الذكريات المؤلمة و أعلمي شيئاً واحداً سيجعلك تنسين الماضي بسرعة أن هذا
الإنسان خائن خائن خائن و لا ولن تكوني لإنسان خائن فسارة لا تستحق ذلك بل
تستحق من هو في مثل صفاء قلبها و نقائه هيا يا سارة هيا قومي و بدلي
الحزن بالفرح و التشاؤم بالتفاؤل و الحب الصافي بالمجهود الكبير للوصول
للمستقبل الباهر فجري في قلبك الإيمان و أن الله معك و أنه عالم بالظلم ولن
يرضي به هيا يا سارة هيا .
نامت سارة في تلك الليلة بصعوبة بالغة وهي تكاد تلتقط أنفاسها الأخيرة من
كثرة البكاء الذي استمر لساعات و ساعات و هي لا تستطيع أن توقفه
اشرقت شمس اليوم التالي
استيقظت سارة و هي مهمومة وواجمة مازال قلبها مجروح بشدة، الجرح ينزف لا
يتوقف، لا تعرف كيف تضمد الجرح إنه الجرح الوحيد في العالم الذي لا يستطيع
كل أطباء الدنيا مداواته أبدا مهما بلغت بهم درجة المهارة و التمكن ،
جرح فتاة عاشقة ، صوت عقلها ينادي و هي تستمع و تحاول استجماع قواها ،
الكون من حلوها جميل ورائع فالعصافير تغرد، الأشجار تتهاتف و تضحك،
الزهور تتفتح، الشمس تعم المكان بالنور و البهجة ، بعث فيها ذلك الأمل و
كأنها رأت النور بازغ من شعاع صغير في نهاية الطريق المظلم ، فقررت أن
تستمع لكلام عقلها و ألا تسعي لمداواة جرحها بل ستقوم بحذفه نهائياً من بين
خلايا قلبها و تبديله بالأمل و العمل الدؤوب لتحقيق الذات .
كانت سارة طالبة في كلية الهندسة و كانت متفوقة جدا و بسبب قصة حبها تلك
كانت تتخاذل في الدراسة في بعض الأحيان حيث تترك لخيالها العنان و تنسي
كل الدنيا و تعيش في مملكة حبيبها الخائن المزيف الذي لم تتوقع هذا
الغدر منه .
لكنها استعادت طاقتها مرة ثانية و استطاعت ان تستعيد قوتها السابقة و
تميزها المعهود.
لكن الجرح القديم يأتي عليه بعض الأوقات و ينزف ثانية و هي تتحدي و تتحدي
و تحذفه من قلبها بالأمل و العمل حتي تتمكن من القضاء عليه تماما علي مر
الأيام ، أحيانا تتذكر سارة الموقف و تري كل مكان حولها يشهد علي تلك
الايام اللعينة التي كانت تتصورها أجمل أيام حياتها و لكن هيهات فقد كانت
أيام الزيف و الخداع .
استمرت سارة في طريقها تذاكر ليل نهار و تعلم أن الله معها لأنها مظلومة و
قلبها المجروح لم يسامح عمرو علي خيانته للأبد.
كانت تجتاز الاختبارات بتفوق و نجاح مبهر و في داخلها طاقة كبري خارقة
للعادة لا تعلم من أين أتت لها و لكنها مؤمنة بأن الله سيكون معها و
سيعوضها عن كل شيء ،لم تتوقف سارة لحظة في طريقها للتفوق إلي أن تم إعلان
النتيجة النهائية في كلية الهندسة لدفعة البكالوريوس و حصلت سارة علي
المركز الأول علي مستوي دفعتها بتقدير امتياز مع مرتبه الشرف الأولي وسط
فرحة كبيرة داخلية، قلبها يرقص فرحاً، عقلها يعلن انتصاره، صدرها يعلو و
يهبط من فرط الفرحة، عيناها تدمعان دموع الفرحة ، أذناها تسمعان صوت
الأذان
ذهب لتصلي و تشكر ربها علي التفوق الذي منحه إياها و أنه عوضها عن كل
الماضي و بدل آلامها و حزنها بالفرح و البهجة و السعادة .
أصبحت سارة معيدة في قسم الهندسة الطبية بكلية الهندسة و تفوقت لأقصي
درجة لدرجة أنها كانت تسجل كل أسبوع مالا يقل عن عشرة أبحاث علمية في
مجال الهندسة و اليوم معروض عليها فرص للتدريس في جامعات العالم
العالمية و مازلت الرحلة مستمرة إلي مالا نهاية .
جاء اليوم الذي توقعته سارة و بالفعل حدث حيث رجع عمرو مرة أخري يبحث عن
سارة في كل مكان فلقد عرف قيمتها و قيمة حبها الصافي الذي لم يجد مثله
في العالم و لكن بعد أن ضاعت سارة منه لكن هيهات فهي لا و لن تستمع لهذا
الخائن مرة أخري بل أصبحت تحتقره بشدة ولا تسمح لعقلها مجرد أن يسترجع أي
ذكري كاذبة كانت في الماضي و إنكوي عمرو من نيران عذابه لتركه اللؤلؤة
المكنونة سارة و لكن هكذا الأيام تأتي للإنسان بفرصة واحدة في العمر إما
أن يستغلها أو تضيع منه للابد فقد ضاعت سارة منه للأبد بلا رجعة معلنة أن
هذا الجرح الذي تركه لها عمرو كان الدافع الأول لبناء تلك الإنسانة العظيمة
.
هكذا كانت قصة سارة الجميلة التي استطاعت أن تتحدي الجرح و أن تجعل من
جرحها طاقة تدفعها للتفوق و التميز لتضح اسمها بين هؤلاء الذين تجعلهم
جراحهم أعظم الناس م ن ق و ل